الخصوصيات الثقافية في مهب العولمة الثقافية – الأمازيغية نموذجا
صفحة 1 من اصل 1
الخصوصيات الثقافية في مهب العولمة الثقافية – الأمازيغية نموذجا
راج جدال و نقاش كثير حول العولمة الثقافية من قِبل القليل من المهتمين )المثقفين( الذين استشعروا خطورتها على ثقافات و خصوصيات الشعوب ، فقام معظمهم بمقاربتها من جوانب عدة غير أنهم لم يتجرؤوا على ملامسة أصل الداء لإعطاء وصفة علاجية حقيقية لها .دون أن ننتظر دواء معجزة يسمح بحل هذه المشكلات على الفور .و ها هنا يمكن أن يرد علينا البعض بأننا نكتب على عجل للاهتمام بحالة و موضوع لم يعد مستعجل أو حتى متجاوز. !!!!
ما يُؤسف له، أن غالبية الحركات المناهضة للعولمة تنظر إلى هذه الأخيرة نظرة تجزيء_إن صح التعبير _ لتقتصر على المخاطر المصاحبة للعولمة في الجانب الاقتصادي و الاجتماعي وبالتالي تقصي مخاطر العولمة الثقافية ، فبالرغم من أن هذه الأخيرة آلية لتحقيق تلك _المصالح الاقتصادية _ ، إلا أننا على قناعة تامة بوجوب مقاربة العولمة في شموليتها و تفادي الإهمال غير المبرر لإحدى تجلياتها المختلفة و الوعي بأهمية توظيف الثقافي ذاته في حسم الصراع كما الحال لدى قوى الهيمنة الإمبريالية الواعية تمام الوعي بذلك، فللعولمة وجوهاً متعددة؛ فهي عولمة سياسية، وعولمة اقتصادية، وعولمة ثقافية، وعولمة إعلامية، وعولمة علمية وتكنولوجية. والخطير في الأمر كلِّه، أن لا وجه من هذه الوجوه يستقل بنفسه؛ فعلى سبيل المثال، لا عولمة ثقافية بدون عولمة سياسية واقتصادية تمهد لها السبيل وتفرضها فرضاً بالترهيب والإجبار تارة، وبالترغيب والتمويه، تارة أخرى.وخطاب عولمة الثقافة هو الآخر في جوهره دعوة لتثبيت اقتصاد العولمة أو بعبارة أخرى عولمة الاقتصاد.
ثقافة العولمة و العولمة الثقافية :
إننا في نقاشنا لهذا الموضوع سنحاول تفادي الوقوع في مستويات بالغة العمومية و التجريد،هذا النقاش الذي لم يكن بأي وجه تلبية لترف فكري أو ما شابه و إنما استجابة أولا لحاجة ذاتية داخل الحركة المناهضة للعولمة- كناشط بها في المغرب- و الحركة الأمازيغية المغيبة لأي نقاش من هذا القبيل و ثانيا موضوعية فرضها واقع تهديدات العولمة الليبرالية.
بادئ ذي بدء، فالعولمة تعني تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله ، فهي نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن، فثقافة العولمة تروم رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، ومنح كامل الحرية للرساميل لغزو الأسواق وبالتالي إذابة الدولة الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. الهادفة إلى تدمير النسيج الاقتصادي المحلي و تعميق التبعية الاقتصادية و تعميم التهميش و الإقصاء الاجتماعيين في سياق تطبيق سياسات التقويم الهيكلي بضرب مجانية الخدمات العمومية.
إنه لفي حكم المؤكد أن العولمة في المجال الثقافي لا تختلف عنها في المجال الاقتصادي من حيث طريقة التوسع و الانتشار فهي في مجال الثقافة لا تقف في طريقها الحواجز و لا تستأذن أهل البلدان قبل الدخول . باعتبار أن الرأسمالية في مراحل تطورها تخطو نحو إزالة الحواجز القومية و الثقافية في سيرورة توحيد اقتصادي و ثقافي للعالم تحت قيادها بغية ممارسة سلطة كونية، مطلقة و شاملة على العالم أجمع ،سلطة استطاعت أن تحقق منها مستويات عليا من النجاح في القرن الحالي لم يكن لها مثيل من قبل.
العولمة الثقافية تتأسس على تبني الدول المخترقة ثقافيا للخيرات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية للنيوليبرالية ،فتروج لقيم ثقافية و سلوكيات و أنماط عيش معينة و أذواق في الملبس و المأكل و تعميم قيم السوق من منافسة و تمجيد القوة و التأكيد على الأنانية والفردانية و نشر ثقافة الاستهلاك و علاوة على ذلك تحويل الثقافة إلى سلعة شأنها شأن السلع الأخرى ، ” فلم يحدث أبدا في أي حقبة أن كانت كل أوجه حياة البشر من علاقات اجتماعية و ثقافة وفن و سياسة و جنس و صحة و تربية و رياضة و ترفيه خاضعة كلية للرأسمال كما هي اليوم” )ميخائيل لووي / الدولة – الأمة و القومية و العولمة و الأممية (.
فمن هيمنة اقتصاد السوق إلى هيمنة ثقافة السوق التي تجند لها البرجوازية جيوشا من المثقفين و مجموع البنيات الثقافية و الإعلامية في مجهود جبار للدعاية لقيم و مبادئ النظام الرأسمالي و التبشير بالانتصار النهائي للقيم الليبرالية على سواها و الحديث عن ” نهاية التاريخ “.
أصبحت أشكال الهيمنة الثقافية عديدة و أكثر تطورا مما كانت عليه، فمسلسل عولمة الاقتصاد الرأسمالي استتبعته عولمة للثقافة الليبرالية استفادت من الثورة المعلوماتية ،فالمدخل الأساسي للتأثير مرتبط بالأساس بالاكتساح الإعلامي الذي يتجاوز كل الأشكال التقليدية للتواصل بالاعتماد على ثقافة الصورة التي تعتبر أكثر إغراءا و جدبا و أشد تعبيرا و أكثر رسوخا و التصاق بالعقل لأنها لغة عالمية تفهمها جميع الشعوب فهي قادرة على تحطيم الحاجز اللغوي. لتذوب بذلك الهويات و تزول الخصوصيات الثقافية و الإثنية للشعوب.
.. أي منظور للدفاع عن الخصوصيات الثقافية :
إن الدفاع و الدعوة لاحترام الخصوصيات الحضارية و احترام التعددية الثقافية يعد عنصرا أساسيا في عملية رفض الهيمنة بأشكالها المختلفة و جزءا أساسيا و جوهريا من حركة مناهضة العولمة ، فالهيمنة الثقافية لا تقل خطورة عن الهيمنة العسكرية و الاقتصادية بل هي اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات.
بالنسبة للخصوصية الثقافية فهي في المعنى الأنثروبولوجي تتمثل في تجلياتها المتعددة ، الذوق ،الملبس ،أنماط الفنون، …،وهذه الخصوصية في ذاتها تبقى مطبوعة بالتعددية الثقافية.ثم إن الخصوصية الثقافية لا تستلزم منا إضفاء نوع من القداسة عليها فبداخلها قد تتجلى – بل تتجلى – مظاهر التخلف والرجعية ومعيقات التطور و التغيير و التفكير الحر و الإبداع و قيم الخضوع و القدرية والعجز…وبالتالي يجب علينا النظر إليها “كخصوصية زمنية لا كخصوصية أبدية فوق الزمان”( العولمة ونفي المدينة،عزيز لزرق) .
إن الدفاع عن الخصوصية الثقافية يجب أن يتأسس على منظور يقطع كليا مع التصور الذي يتوهم بأن العودة للجذور و الأصالة ستساعد على الانفلات من هيمنة العولمة بأبعادها المتعددة وآلياتها في السيطرة إنه تصور لا يكرس في الأصل إلا نزعة الهروب إلى الوراء دون أي نقد عقلاني و علمي لهذا التراث و هذه الأصالة، ويقود – هذا التصور – إلى نزعة ثقافوية تنظر للعالم من زاوية الثقافة و لا تراهن إلا على البعد الثقافي في مواجهة العولمة .
مما يعني أن مناقشة إشكالية الهوية الثقافية لا تبتعد عن طرح قضية التحرر و التغيير الاجتماعيين، فاضطهاد مركب لا ينحل إلا على أرضية المعارك الشاملة.
“فالمسألة في الجوهر هي معركة من أجل التحرر الداخلي أي معركة سياسية و اقتصادية و ثقافية على أرضية الديمقراطية لصالح كل المكونات الثقافية و كل التوجهات الإيديولوجية في أفق بلورة منظور ثقافي حداثي لا يستهين بالثقافة الشعبية و لا بالحس المشترك و لا ثقافة الهامش .”( الهوية الثقافية بين الخصوصية وخطاب العولمة الهيمني/ عبد اللطيف الخمسي )
علاوة على ذالك، السعي إلى بناء مشروع ثقافي يكرس هوية ثقافية نقدية و عقلانية متفاعلة مع ايجابيات التحولات الكونية بعيدا عن منطق الخصوصية الضيقة، مع إضفاء “الوحدة الدياليكتيكية بين الكوني و الخاص عبر تشكيل كوني يحترم تنوع الثقافات دون إضفاء طابع المطلق عليها ،كوني لا يكون واجهة للخصوصية الغربية ومبني انطلاقا من القيم الحقيقية لكافة الثقافات “( الماركسية والمسألة القومية:تركيب/ ميخائيل لووي)
الحركة الأمازيغية وآفاق مواجهة سيرورة التفكيك الثقافي :
إن دراسة علمية لإشكالية العولمة الثقافية بوجه عام و ثأتيرها على الثقافة الأمازيغية بوجه خاص ،يعتبر ضرورة لا محيد عنها للحركة الأمازيغية و كذا لمناهضي العولمة الليبرالية بالمغرب.
فإذا ركزنا زاوية الرؤية على اللغة و الثقافة الأمازيغية ، هذه الأخيرة ليست بمنأى عن تيار العولمة الجارف الذي يأتي على كل الثقافات، لتذوب الهويات وتزول الخصوصيات الثقافية و الإثنية للشعوب.
هنا لابد من التذكير بأن العولمة الثقافية لا تهدد فقط الدول النامية، فهناك دول أوربية متقدمة استشعرت هذا الخطر ونذكر هاهنا المفاوضات الشاقة التي جمعت فرنسا بالولايات المتحدة الأمريكية على هامش معاهدة ” الجات ” gatte حيث كان مثقفو فرنسا متخوفون من مدى قدرة الهوية الفرنسية على الصمود أمام الاختراق الثقافي و الإعلامي الأجنبي …
إن ” مُنظري” الحركة الأمازيغية لن يستطيعوا أن يخفوا أو بالأحرى يحجبوا بطروحاتهم التبسيطية للقضية الأمازيغية شمس الحقيقة الساطعة لأكثر من برهة عابرة ،حتى لو أخذت تلك البرهة حجم سنين طوال لا بل حقب .
فحقيقة التحديات و المشاكل التي يعانيها الإنسان الأمازيغي و ما تواجهه ثقافته و هويته من مخاطر الاضمحلال والانقراض ليست بأي حال من الأحوال تلك الطروحات المروج لها في أوساط الحركة فقط ، و المقتصرة على المشاكل الثقافية و اللغوية مغيبة المشاكل الأخرى اليومية التي تقض مضجع الإنسان الأمازيغي ، متناسين أن ما تعرض له الشعب الأمازيغي من أقصى أنواع القمع و الاضطهاد على المستوى الثقافي و اللغوي لا يقل شأنا عن الذي يتعرض له على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي من طرف الأنظمة الرأسمالية التبعية القائمة ببلدان شمال إفريقيا ،ناهيك عن التأصيل الخاطئ لواقع الإقصاء الثقافي نفسه.
ما يجعل هذه الحركة، وبخطابها القزمي ذاك، ترزح في مستويات عليا من النخبوية ، و تجاوز هذه الأخيرة لن يكون إلا بإدماج النخب في الشعب عوض إدماجها في مؤسسات الدولة .
يعد استمرار صمود الأمازيغية أمام التحديات الاستعمارية المتتالية على شمال إفريقيا بشكل عام والمغرب بوجه الخصوص ( من الرومان إلى العرب ) أمرا استثنائيا مقارنة باللغات التي عاصرتها و التي تعد الآن في عداد اللغات المنقرضة ، و بالنظر إلى ما تعتمد عليه من وسائل تقليدية و غلبية الشفوية عليها في إنتاج و إعادة إنتاج قيمها الرمزية و اللغوية . يعزى هذا الصمود إلى عوامل أساسية محددة في العامل الجغرافي ( تحصن الأمازيغ في مناطق جغرافية مستعصية على الاستعمار التقليدي)، نظام حيازة الأرض ( الملكية الجماعية للأرض ) ، علاقات التضامن و التعاون السائدة في المجتمع القبلي الأمازيغي ( تويزي ، أدوال …) ، وكذا العامل السياسي ( النظام القبلي ، أيت ربعين ، إنفلاس …)
كان مجيء الاستعمار الفرنسي و الإسباني بداية انعطاف مقاومة الإجتثات، فقد قامت الدولتان الإمبرياليتان بتدمير و تفكيك ممنهجين في البنيات التقليدية التي حمت الأمازيغية من الانقراض لعدة قرون، وذلك بإدخال نمط الإنتاج الرأسمالي الذي اقتلع الإنسان الأمازيغي من محيطه– القبيلة ، الأسرة- بالهجرة نحو ضواحي المدن، فحرم بذلك من وسائل الحفاظ على هويته التي طالما ساعدته على إنتاج و إعادة إنتاج قيمه الثقافية و الهوياتية ، علاوة على “انكباب الإمبرياليين على مسألة لغات المستعمر و معرفة عاداته و بالتالي مثاقفته و نكران لغته وفرض لغة أخرى عليه (الابتلاع )” ( بوجمعة الهباز ، بتصرف )
معظم التجارب الاستعمارية تشير بل تؤكد أن المستعمِر لم يكن يستهدف البنية الاقتصادية للمستعمَر فحسب بل إنه يستهدف كذلك وفي الوقت نفسه بنيته الثقافية للقضاء على كل عناصرها و معه القضاء على المقاومة الثقافية،ما يتيح للمستعمر التدخل و الهيمنة من أجل الاستغلال الاقتصادي .
هذا بالنسبة للاستعمار المباشر، الذي استطاع أن يحدث الشرخ الأول في المقاومة الثقافية للأمازيغية دون تحقيق انمحاءها، أما راهنيا ومع ما يصطلح عليه بعصر العولمة _ الاستعمار في نسخته الجديدة( الغير المباشر) – فإن ضمانات تحصينها التاريخية لم تعد تقف حاجزا أمام الغزو المعولم للثقافة الجديدة المروج لها ، في ظل الإقصاء التام / التواجد المشوه في الإعلام و التعليم و الإدارة …
فمن جملة ما تواجهه الأمازيغية الآن نجد:
- التراجع المستمر للغة الأمازيغية أمام اكتساح اللغات الأجنبية.
- فقدان الثقافة الأمازيغية للقدرة على التجديد.
- تخلف الجانب الإعلامي و التعليمي.
- تآكل الموروث الثقافي ( حتى في تجلياته العمرانية)
- تحويل القيم الثقافية و الحضارية و الفنية و الجمالية للأمازيغية إلى قيم تبادلية سلعية بفلكلرتها و دمج التراث و الثقافة الأمازيغية في سيرورة الإنتاج الرأسمالي .
هذه إحدى جوانب اللوحة العامة للوضع الكارثي الذي أصبحت عليه الأمازيغية ،فأي موقف نتخد من العولمة عموما ؟ أ هو التجاهل و عدم الاهتمام و اللامبالاة ؟ أم هذا قبول للأمر الواقع و الاستسلام و الخضوع لإرادة السيطرة و الهيمنة؟
بدل الهرولة تجاه الدول الإمبريالية و المؤسسات الدولية و الإسنتجاد بها ، وهي المساهمة والعصب الرئيس المتحكم فيما نحن عليه من اضطهاد اقتصادي واجتماعي وثقافي،يجب الوعي بأن القضاء على الاضطهاد الثقافي لن يتحقق إلا في إطار مواجهة شاملة تتوحد فيها جهود مناضلي كل الحركات الاجتماعية و الديمقراطية ضد الاستبداد السياسي و الاستغلال الاقتصادي و الإقصاء الثقافي …
مع استلهام تجارب نضال القوميات المضطهدة التي تتطور حاليا على المستوى الأممي و السعي لتنسيق الجهود لبناء ميزان قوى ضد هيمنة العولمة الليبرالية و التأسيس لعولمة بعيدة عن كل منطق منغلق، تتأسس على التضامن بين الشعوب .
و تعد الحركة الزباتية مثالا يقتدى به في هذا الجانب، فهي منغرسة في أعماق الجماعات الأهلية في إقليم التشيباس وفي مطالبتها بالحكم الذاتي و تناضل في نفس الوقت ضد الهيمنة العالمية للنيوليبرالية ،باسم ” الدفاع عن الإنسانية ، ضد النيوليبرالية
ما يُؤسف له، أن غالبية الحركات المناهضة للعولمة تنظر إلى هذه الأخيرة نظرة تجزيء_إن صح التعبير _ لتقتصر على المخاطر المصاحبة للعولمة في الجانب الاقتصادي و الاجتماعي وبالتالي تقصي مخاطر العولمة الثقافية ، فبالرغم من أن هذه الأخيرة آلية لتحقيق تلك _المصالح الاقتصادية _ ، إلا أننا على قناعة تامة بوجوب مقاربة العولمة في شموليتها و تفادي الإهمال غير المبرر لإحدى تجلياتها المختلفة و الوعي بأهمية توظيف الثقافي ذاته في حسم الصراع كما الحال لدى قوى الهيمنة الإمبريالية الواعية تمام الوعي بذلك، فللعولمة وجوهاً متعددة؛ فهي عولمة سياسية، وعولمة اقتصادية، وعولمة ثقافية، وعولمة إعلامية، وعولمة علمية وتكنولوجية. والخطير في الأمر كلِّه، أن لا وجه من هذه الوجوه يستقل بنفسه؛ فعلى سبيل المثال، لا عولمة ثقافية بدون عولمة سياسية واقتصادية تمهد لها السبيل وتفرضها فرضاً بالترهيب والإجبار تارة، وبالترغيب والتمويه، تارة أخرى.وخطاب عولمة الثقافة هو الآخر في جوهره دعوة لتثبيت اقتصاد العولمة أو بعبارة أخرى عولمة الاقتصاد.
ثقافة العولمة و العولمة الثقافية :
إننا في نقاشنا لهذا الموضوع سنحاول تفادي الوقوع في مستويات بالغة العمومية و التجريد،هذا النقاش الذي لم يكن بأي وجه تلبية لترف فكري أو ما شابه و إنما استجابة أولا لحاجة ذاتية داخل الحركة المناهضة للعولمة- كناشط بها في المغرب- و الحركة الأمازيغية المغيبة لأي نقاش من هذا القبيل و ثانيا موضوعية فرضها واقع تهديدات العولمة الليبرالية.
بادئ ذي بدء، فالعولمة تعني تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله ، فهي نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن، فثقافة العولمة تروم رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، ومنح كامل الحرية للرساميل لغزو الأسواق وبالتالي إذابة الدولة الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. الهادفة إلى تدمير النسيج الاقتصادي المحلي و تعميق التبعية الاقتصادية و تعميم التهميش و الإقصاء الاجتماعيين في سياق تطبيق سياسات التقويم الهيكلي بضرب مجانية الخدمات العمومية.
إنه لفي حكم المؤكد أن العولمة في المجال الثقافي لا تختلف عنها في المجال الاقتصادي من حيث طريقة التوسع و الانتشار فهي في مجال الثقافة لا تقف في طريقها الحواجز و لا تستأذن أهل البلدان قبل الدخول . باعتبار أن الرأسمالية في مراحل تطورها تخطو نحو إزالة الحواجز القومية و الثقافية في سيرورة توحيد اقتصادي و ثقافي للعالم تحت قيادها بغية ممارسة سلطة كونية، مطلقة و شاملة على العالم أجمع ،سلطة استطاعت أن تحقق منها مستويات عليا من النجاح في القرن الحالي لم يكن لها مثيل من قبل.
العولمة الثقافية تتأسس على تبني الدول المخترقة ثقافيا للخيرات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية للنيوليبرالية ،فتروج لقيم ثقافية و سلوكيات و أنماط عيش معينة و أذواق في الملبس و المأكل و تعميم قيم السوق من منافسة و تمجيد القوة و التأكيد على الأنانية والفردانية و نشر ثقافة الاستهلاك و علاوة على ذلك تحويل الثقافة إلى سلعة شأنها شأن السلع الأخرى ، ” فلم يحدث أبدا في أي حقبة أن كانت كل أوجه حياة البشر من علاقات اجتماعية و ثقافة وفن و سياسة و جنس و صحة و تربية و رياضة و ترفيه خاضعة كلية للرأسمال كما هي اليوم” )ميخائيل لووي / الدولة – الأمة و القومية و العولمة و الأممية (.
فمن هيمنة اقتصاد السوق إلى هيمنة ثقافة السوق التي تجند لها البرجوازية جيوشا من المثقفين و مجموع البنيات الثقافية و الإعلامية في مجهود جبار للدعاية لقيم و مبادئ النظام الرأسمالي و التبشير بالانتصار النهائي للقيم الليبرالية على سواها و الحديث عن ” نهاية التاريخ “.
أصبحت أشكال الهيمنة الثقافية عديدة و أكثر تطورا مما كانت عليه، فمسلسل عولمة الاقتصاد الرأسمالي استتبعته عولمة للثقافة الليبرالية استفادت من الثورة المعلوماتية ،فالمدخل الأساسي للتأثير مرتبط بالأساس بالاكتساح الإعلامي الذي يتجاوز كل الأشكال التقليدية للتواصل بالاعتماد على ثقافة الصورة التي تعتبر أكثر إغراءا و جدبا و أشد تعبيرا و أكثر رسوخا و التصاق بالعقل لأنها لغة عالمية تفهمها جميع الشعوب فهي قادرة على تحطيم الحاجز اللغوي. لتذوب بذلك الهويات و تزول الخصوصيات الثقافية و الإثنية للشعوب.
.. أي منظور للدفاع عن الخصوصيات الثقافية :
إن الدفاع و الدعوة لاحترام الخصوصيات الحضارية و احترام التعددية الثقافية يعد عنصرا أساسيا في عملية رفض الهيمنة بأشكالها المختلفة و جزءا أساسيا و جوهريا من حركة مناهضة العولمة ، فالهيمنة الثقافية لا تقل خطورة عن الهيمنة العسكرية و الاقتصادية بل هي اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات.
بالنسبة للخصوصية الثقافية فهي في المعنى الأنثروبولوجي تتمثل في تجلياتها المتعددة ، الذوق ،الملبس ،أنماط الفنون، …،وهذه الخصوصية في ذاتها تبقى مطبوعة بالتعددية الثقافية.ثم إن الخصوصية الثقافية لا تستلزم منا إضفاء نوع من القداسة عليها فبداخلها قد تتجلى – بل تتجلى – مظاهر التخلف والرجعية ومعيقات التطور و التغيير و التفكير الحر و الإبداع و قيم الخضوع و القدرية والعجز…وبالتالي يجب علينا النظر إليها “كخصوصية زمنية لا كخصوصية أبدية فوق الزمان”( العولمة ونفي المدينة،عزيز لزرق) .
إن الدفاع عن الخصوصية الثقافية يجب أن يتأسس على منظور يقطع كليا مع التصور الذي يتوهم بأن العودة للجذور و الأصالة ستساعد على الانفلات من هيمنة العولمة بأبعادها المتعددة وآلياتها في السيطرة إنه تصور لا يكرس في الأصل إلا نزعة الهروب إلى الوراء دون أي نقد عقلاني و علمي لهذا التراث و هذه الأصالة، ويقود – هذا التصور – إلى نزعة ثقافوية تنظر للعالم من زاوية الثقافة و لا تراهن إلا على البعد الثقافي في مواجهة العولمة .
مما يعني أن مناقشة إشكالية الهوية الثقافية لا تبتعد عن طرح قضية التحرر و التغيير الاجتماعيين، فاضطهاد مركب لا ينحل إلا على أرضية المعارك الشاملة.
“فالمسألة في الجوهر هي معركة من أجل التحرر الداخلي أي معركة سياسية و اقتصادية و ثقافية على أرضية الديمقراطية لصالح كل المكونات الثقافية و كل التوجهات الإيديولوجية في أفق بلورة منظور ثقافي حداثي لا يستهين بالثقافة الشعبية و لا بالحس المشترك و لا ثقافة الهامش .”( الهوية الثقافية بين الخصوصية وخطاب العولمة الهيمني/ عبد اللطيف الخمسي )
علاوة على ذالك، السعي إلى بناء مشروع ثقافي يكرس هوية ثقافية نقدية و عقلانية متفاعلة مع ايجابيات التحولات الكونية بعيدا عن منطق الخصوصية الضيقة، مع إضفاء “الوحدة الدياليكتيكية بين الكوني و الخاص عبر تشكيل كوني يحترم تنوع الثقافات دون إضفاء طابع المطلق عليها ،كوني لا يكون واجهة للخصوصية الغربية ومبني انطلاقا من القيم الحقيقية لكافة الثقافات “( الماركسية والمسألة القومية:تركيب/ ميخائيل لووي)
الحركة الأمازيغية وآفاق مواجهة سيرورة التفكيك الثقافي :
إن دراسة علمية لإشكالية العولمة الثقافية بوجه عام و ثأتيرها على الثقافة الأمازيغية بوجه خاص ،يعتبر ضرورة لا محيد عنها للحركة الأمازيغية و كذا لمناهضي العولمة الليبرالية بالمغرب.
فإذا ركزنا زاوية الرؤية على اللغة و الثقافة الأمازيغية ، هذه الأخيرة ليست بمنأى عن تيار العولمة الجارف الذي يأتي على كل الثقافات، لتذوب الهويات وتزول الخصوصيات الثقافية و الإثنية للشعوب.
هنا لابد من التذكير بأن العولمة الثقافية لا تهدد فقط الدول النامية، فهناك دول أوربية متقدمة استشعرت هذا الخطر ونذكر هاهنا المفاوضات الشاقة التي جمعت فرنسا بالولايات المتحدة الأمريكية على هامش معاهدة ” الجات ” gatte حيث كان مثقفو فرنسا متخوفون من مدى قدرة الهوية الفرنسية على الصمود أمام الاختراق الثقافي و الإعلامي الأجنبي …
إن ” مُنظري” الحركة الأمازيغية لن يستطيعوا أن يخفوا أو بالأحرى يحجبوا بطروحاتهم التبسيطية للقضية الأمازيغية شمس الحقيقة الساطعة لأكثر من برهة عابرة ،حتى لو أخذت تلك البرهة حجم سنين طوال لا بل حقب .
فحقيقة التحديات و المشاكل التي يعانيها الإنسان الأمازيغي و ما تواجهه ثقافته و هويته من مخاطر الاضمحلال والانقراض ليست بأي حال من الأحوال تلك الطروحات المروج لها في أوساط الحركة فقط ، و المقتصرة على المشاكل الثقافية و اللغوية مغيبة المشاكل الأخرى اليومية التي تقض مضجع الإنسان الأمازيغي ، متناسين أن ما تعرض له الشعب الأمازيغي من أقصى أنواع القمع و الاضطهاد على المستوى الثقافي و اللغوي لا يقل شأنا عن الذي يتعرض له على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي من طرف الأنظمة الرأسمالية التبعية القائمة ببلدان شمال إفريقيا ،ناهيك عن التأصيل الخاطئ لواقع الإقصاء الثقافي نفسه.
ما يجعل هذه الحركة، وبخطابها القزمي ذاك، ترزح في مستويات عليا من النخبوية ، و تجاوز هذه الأخيرة لن يكون إلا بإدماج النخب في الشعب عوض إدماجها في مؤسسات الدولة .
يعد استمرار صمود الأمازيغية أمام التحديات الاستعمارية المتتالية على شمال إفريقيا بشكل عام والمغرب بوجه الخصوص ( من الرومان إلى العرب ) أمرا استثنائيا مقارنة باللغات التي عاصرتها و التي تعد الآن في عداد اللغات المنقرضة ، و بالنظر إلى ما تعتمد عليه من وسائل تقليدية و غلبية الشفوية عليها في إنتاج و إعادة إنتاج قيمها الرمزية و اللغوية . يعزى هذا الصمود إلى عوامل أساسية محددة في العامل الجغرافي ( تحصن الأمازيغ في مناطق جغرافية مستعصية على الاستعمار التقليدي)، نظام حيازة الأرض ( الملكية الجماعية للأرض ) ، علاقات التضامن و التعاون السائدة في المجتمع القبلي الأمازيغي ( تويزي ، أدوال …) ، وكذا العامل السياسي ( النظام القبلي ، أيت ربعين ، إنفلاس …)
كان مجيء الاستعمار الفرنسي و الإسباني بداية انعطاف مقاومة الإجتثات، فقد قامت الدولتان الإمبرياليتان بتدمير و تفكيك ممنهجين في البنيات التقليدية التي حمت الأمازيغية من الانقراض لعدة قرون، وذلك بإدخال نمط الإنتاج الرأسمالي الذي اقتلع الإنسان الأمازيغي من محيطه– القبيلة ، الأسرة- بالهجرة نحو ضواحي المدن، فحرم بذلك من وسائل الحفاظ على هويته التي طالما ساعدته على إنتاج و إعادة إنتاج قيمه الثقافية و الهوياتية ، علاوة على “انكباب الإمبرياليين على مسألة لغات المستعمر و معرفة عاداته و بالتالي مثاقفته و نكران لغته وفرض لغة أخرى عليه (الابتلاع )” ( بوجمعة الهباز ، بتصرف )
معظم التجارب الاستعمارية تشير بل تؤكد أن المستعمِر لم يكن يستهدف البنية الاقتصادية للمستعمَر فحسب بل إنه يستهدف كذلك وفي الوقت نفسه بنيته الثقافية للقضاء على كل عناصرها و معه القضاء على المقاومة الثقافية،ما يتيح للمستعمر التدخل و الهيمنة من أجل الاستغلال الاقتصادي .
هذا بالنسبة للاستعمار المباشر، الذي استطاع أن يحدث الشرخ الأول في المقاومة الثقافية للأمازيغية دون تحقيق انمحاءها، أما راهنيا ومع ما يصطلح عليه بعصر العولمة _ الاستعمار في نسخته الجديدة( الغير المباشر) – فإن ضمانات تحصينها التاريخية لم تعد تقف حاجزا أمام الغزو المعولم للثقافة الجديدة المروج لها ، في ظل الإقصاء التام / التواجد المشوه في الإعلام و التعليم و الإدارة …
فمن جملة ما تواجهه الأمازيغية الآن نجد:
- التراجع المستمر للغة الأمازيغية أمام اكتساح اللغات الأجنبية.
- فقدان الثقافة الأمازيغية للقدرة على التجديد.
- تخلف الجانب الإعلامي و التعليمي.
- تآكل الموروث الثقافي ( حتى في تجلياته العمرانية)
- تحويل القيم الثقافية و الحضارية و الفنية و الجمالية للأمازيغية إلى قيم تبادلية سلعية بفلكلرتها و دمج التراث و الثقافة الأمازيغية في سيرورة الإنتاج الرأسمالي .
هذه إحدى جوانب اللوحة العامة للوضع الكارثي الذي أصبحت عليه الأمازيغية ،فأي موقف نتخد من العولمة عموما ؟ أ هو التجاهل و عدم الاهتمام و اللامبالاة ؟ أم هذا قبول للأمر الواقع و الاستسلام و الخضوع لإرادة السيطرة و الهيمنة؟
بدل الهرولة تجاه الدول الإمبريالية و المؤسسات الدولية و الإسنتجاد بها ، وهي المساهمة والعصب الرئيس المتحكم فيما نحن عليه من اضطهاد اقتصادي واجتماعي وثقافي،يجب الوعي بأن القضاء على الاضطهاد الثقافي لن يتحقق إلا في إطار مواجهة شاملة تتوحد فيها جهود مناضلي كل الحركات الاجتماعية و الديمقراطية ضد الاستبداد السياسي و الاستغلال الاقتصادي و الإقصاء الثقافي …
مع استلهام تجارب نضال القوميات المضطهدة التي تتطور حاليا على المستوى الأممي و السعي لتنسيق الجهود لبناء ميزان قوى ضد هيمنة العولمة الليبرالية و التأسيس لعولمة بعيدة عن كل منطق منغلق، تتأسس على التضامن بين الشعوب .
و تعد الحركة الزباتية مثالا يقتدى به في هذا الجانب، فهي منغرسة في أعماق الجماعات الأهلية في إقليم التشيباس وفي مطالبتها بالحكم الذاتي و تناضل في نفس الوقت ضد الهيمنة العالمية للنيوليبرالية ،باسم ” الدفاع عن الإنسانية ، ضد النيوليبرالية
مواضيع مماثلة
» عن الثقافة الشعبية الأمازيغية : أكادير الهناء طاطا نموذجا
» مواسم الجمعة النّسائية : عن الثقافة الشعبية الأمازيغية طاطا ... أكادير الهناء نموذجا
» دور المرأة الأمازيغية في المقاومة ضد الاستعمار
» الأمثال الشّعبية الأمازيغية الشائعة .. طاطا نموذجا بالأمازيغية عربية الحرف .. تليه الترجمة بالعربية كذلك
» لمدرسي الأمازيغية الراغبين في تطوير مستوى التدريس و ادخال المعلوميات، هذه حروف الأمازيغية "تيفيناغ" للتحميل و الكتابة بها على الحاسوب.
» مواسم الجمعة النّسائية : عن الثقافة الشعبية الأمازيغية طاطا ... أكادير الهناء نموذجا
» دور المرأة الأمازيغية في المقاومة ضد الاستعمار
» الأمثال الشّعبية الأمازيغية الشائعة .. طاطا نموذجا بالأمازيغية عربية الحرف .. تليه الترجمة بالعربية كذلك
» لمدرسي الأمازيغية الراغبين في تطوير مستوى التدريس و ادخال المعلوميات، هذه حروف الأمازيغية "تيفيناغ" للتحميل و الكتابة بها على الحاسوب.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى